الخذلان للأديبة د.رفيعة الخزناجي


الخذلان 

كانت تجلسُ على كرسيها الهزاز ،  تراقب ذلك الصباح الجميل ، تلقي بنظراتها على زهور الحديقة  كيف ينعم وترعرعت بعد سقوط حبّات المطر التي لعبت ببتلاتها و طهرتها من غبار الرياح التي سبقتها ؛ 
كانت تحاول أن  تتلهى بأي شيء ، أن  تشتت تركيزها في التفكير ، و
عدم الرجوع إلى الماضي ، ذلك الماضي الذي أرقها وأخذ قسطا وفيرا من راحتها وصحتها . 
كانوا مجرد أصدقاء تربطهم علاقة زمالة لا أكثر من ذلك ، سنة بعد سنة ، توطدت العلاقة ، وتم الارتباط بينهما دون علم  الأسرتين ، فهما هنا بالمدينة والأهل كل بقرية تبعد عن الأخرى آلاف الأمتار ، لا أحد يعرف الخبر وخاصة أنهما لا يعودا للقرية لضرورة العمل مع الدراسة ؛ تتالت الأيام و تتابعت الأشهر و نجحا بالدراسة ، كان علي متفوقا وتحصل على منحة دراسية في إحدى جامعات لندن ، أما زينب بقيت فستواصل شهادة الماجستير في نفي الجامعة التي درست بها ، 
 أحببت زينب علي بشدة واختارت أن تكون بقربه وإلى جانبه وتزوجت دون علم الأهل ، لكنه هو فقد فضل دراسته ونجاحه عليها ، وسافر 
وتركها ينشد النجاح والتألق ، ناسيا ذلك الميثاق الذي يربط بينهما ، حاولت أن تقنعه بالبقاء لكنه رفض ؛ وتشاء الأقدار أن تجد زينب نفسها حاملا بعد سفر زوجها ، تعلمه بالأمر ، فيطلب منها أن تسقط الجنين ، جن جنونها ورفضت طلبه ، وبقيت تحاول أن تقنعه بترك ثمرة حبهما ، لكنه أصبح أكثر عنادا ، وهي أيضا تمادت في ما تريد وبعد ما أنهت امتحاناتها ، وقبل أن تضع مولودها ، أرسل لها ورقة الطلاق ؛ حزنت كثيرا وتألمت جدا ولكنها قررت أن لا تقف جامدة وعاجزة أمام قدرها ، رزقت زينب بنفسها واعتنت به لوحدها وأصبحت دكتورة تدرس بنفس جامعتها ، وبعد خمس سنوات عاد علي ليدرس هو الآخر بنفس الجامعة ؛ قابلها هناك وحاولَ كثيرا أن يتحدث إليها وأن  يعتذرمنها ،  وأن يقدم لها مبرراته لما قام به حينها ، لكنها لم تسمح له قط ، ولم تمنحه الفرصة ولو لثواني ليلقي التحية ؛ تجاهلته وبقوة ، وأبدت لا مبالاة عظيمة ، أكملت مشوارها وتعاملت مع وجوده كأنه من المسلمات غير ذي قيمة ؛ كان أسوء شعور هو ذلك الذي تحس به وكان ضرره على نفسها قويا ؛ قررت أن لا يعرف شيئا عن إبنه مهما تكن نتائج ذلك القرار ... 
مرت الأيام ، وعلم علي بوجود ابنه ، فقرر وبقوة أن يواجهها ، فاجأها بقدومه لمقر سكناها ، واضطرت لقبوله،  لكنها بقيت شاردة الذهن طيلة حديثه ، وكأنها بمحطة قطارات وسط ازدحامها الشديد أو بسوق شعبية تتعالى بها أصوات الباعة ، وفجأة انقطعت جولتها تلك على صوته و نبرته التي لم تغادر مسمعها منذ رحل يناديها باسمها ؛
وجهت نظرها صوبه وقد شعرت بصقيع وقشعريرة جمّدت الدم بشرايينها ، وشعرت بثقل كما لو أنها سجين  يجر سلاسل وكرات حديدية  أثقلت خطاه وهو يصعد  منصة الإعدام ، وسألته :
هل أحسست يوما بالخذلان ؟ هل تعرف مدى تأثيره على نفس الإنسان ؟ 
هل تحملت الوجع لأيام وليال لوحدك ودون أن تجد من يسمعك ويواسيك؟ 
هل حُرمت النوم وشعرت بضيق الأفق رغم أن الفضاء رحب ولانهاية له؟
هل ابيض شعرك ، وثقل كاهلك ، رغم صغر سنك ؟ 
هل تحملت عبء أفكارك التي كانت تغزوك كجيش عرمرم وتحرمك حلاوة العيش  وانت تحاول كيف ستري طفل لوحدك ؟؟؟
أكيد وجدا لا ، فأنت كنت ، هناك بعيدا تنعم بعيشك وتسعى للتألق والتفوق ، طبعا غير عابيء بما يدور هنا ...
شعر بخجل شديد  وكأن أحدهم ، صب دلو ماء بارد عليه ، وحاول أن يبرر ويعتذر ، ويطلب منها أن تسامحه ، لكنها واصلت حديثها قائلة : 
القدر وضعني في طريقك ، وكنت أنت أملي الجميل لعيش رغيد ، لكنك سرعان ما تحولت لبركان ثائر تأكل الأخضر واليابس  وكنت أنا في طريقك ، وبقدرة قادر نجوت ، لكن أصابتني بعض الحروق بقلبي 
فاضطررت لقطع قطعة منه كانت ملكا لك ذات يوم .... انتهى الحديث،  ولا شيء لدي يخصك ، تفضل مع السلامة !
عادت بنظرها إلى حديقتها وزهورها و رسمت على وجهها ابتسامة وقالت الحمد لله ما أكرمك ربي ، وهبتني من يؤنسني في وحدتي فلتحفظه لي يااا رب !!!

رفيعة الخزناجي /تونس 
#هلوساتي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أمل كاذب ولا حقيقة مرة للأديبة د.هبة رعد

حُقَّ الوداع للشاعر د.قسطة مرزوقة

أنين العذارى للأديبة غاده بوشر